المختار ولد داداه يكتب عن ذكريات الانقلاب وعن سجنه في ولاتة

جمعة, 14/07/2023 - 13:48

...الرابعة والنصف، فما هو الوقت المفضل عندكم لتناول الإفطار؟». فأجبت : الساعة الرابعة.

وعلمت من مصادر عدة، بعد خروجى من البلاد سنة 1979، أن ضابطي صف من الفرقة التي كانت تتولى حراستى في «جيني» قد أعدا مشروعاً لاختطافي في سيارة لاندروفير واصطحابي إلى السينغال. ولكنهما تراجعا عن مشروعهما خشية تعريض حياتي للخطر خاصة عند عبور النهر، إذ يصعب تفادى عمليات اعتراض من قبل مطارِدين من نواكشوط أو من عناصر عسكرية في روصو أو أية نقطة أخرى من الولاية السادسة.

إننى في الواقع لا أعرف هذين الضابطين، ولكن أحدهما من أهل الشمال (الولاية السابعة أو الثامنة، أو الثانية عشرة)، والآخر من الولاية الثالثة. بيد أنني أتذكر أن ضابط صف تظهر عليه ملامح أهل الساحل أو أهل التل قد اتسمت تصرفاته باحترام خاص.

فهل كانت هذه القصة، التي لم أبحث عن مدى صدقها إطلاقاً، حقاً أم باطلا؟ لا أدرى. وإذا كانت هذه القصة لا تبدو لي واقعية، فقد استطردتها لأنها تتعلق بفترة إقامتى في «جيني» التي أتحدث عنها.

ومهما يكن من أمر، فإننى ما كنت لأقبل الهروب حتى وإن توفرت لي كافة ظروف السلامة.

ويحين موعد السفر عن «جيني» بحلول يوم 15 يوليو على الساعة الرابعة والنصف والليل مرخ سدوله. وقد رافقني النقيب آتيي وعدد من الجنود المسلحين على متن السيارة نفسها التي تحدثت عنها فيما سبق، وكانت الوجهة هذه المرة مطار نواكشوط الذي توقفت بنا السيارة على طرف مدرجه قرب طائرة صغيرة من طراز ديفانديرDeffender جاثمة على أرض المطار. ونزل الجميع من السيارة ومشيت خطوات وحدى في جو منعش من الليلة الأخيرة في نواكشوط. وكانت المدينة في تلك اللحظات نائمة تحت أنوارها العمومية المبعثرة والباهتة في أغلب الأحيان. وعليه، فإن كل ما يحيط بى لا يستشف منه أن أي شيء قد تغير في الجمهورية الإسلامية الموريتانية. فالسماء كما هي مرصعة بنجوم متلألئة، والسكون العميق لليل كما عهدته عند الإقلاع في تلك الساعة المبكرة حينما كنت أقوم بزياراتي إلى داخل البلاد أو برحلات إلى الخارج.

وفي حدود الساعة الخامسة، وصل الطيار في اللحظة التي وصل فيها النقيب محمد محمود ولد الديه إن لم يكن جاء برفقته. وكان جنود الحراسة الأربعة حاضرين، ومن بينهم اثنان كانا في خدمتي فترة مقامي في «جيني».

وتمضى لحظات من تبادل التحية مع النقيب ولد الديه ووداع النقيب آتيي، لتقلني بعدها طائرة ديفاندير Deffender إلى وجهة أجهلها. وبعد طلوع الفجر واتضاح المشاهد الطبيعية التي نحلق فوقها، تبينت أن وجهتنا نحو الشرق وتحديداً صوب كيفه ثم تامشكط، فالعيون أو النعمة. وكان الغيث ينزل على المنطقة في تلك الأثناء مما تسبب في رداءة الرؤية وجعل الطائرة تنحرف عن خط سيرها على ما يبدو.

فقد قامت بعدة دوراًت حول أفلّه دون أن تحدد موقع العيون، وفي النهاية تمكنت من ذلك وهبطت دون صعوبة. وتوقفت في نهاية المدرج في الطرف المقابل لمستودعات الوقود، ونزل جميع الركاب ما عدى الملاح الذي دحرج الطائرة باتجاه المستودعات. وكان المطر قد توقف، فاستنشقت نسيم ما بعد المطر، ذلك النسيم الرطب البارد العليل الذي حملته البشائر الأولى لفصل الأمطار. وبحثنا عن مكان ملائم لقضاء صلاة الفجر. وبهذه المناسبة أظهر النقيب ولد الديه لباقة تصل حد الملاطفة. وخلال الفترة الفاصلة بين انتهاء الصلاة وتزود الملاح بالوقود، كنا نتحدث عن المطر والجو الجميل. وكان النقيب، وهو أحد أبناء المنطقة، مرتاحا لطلائع موسم أمطار واعد. وكنت بدورى سعيدا لرؤية بداية فعلية للأمطار آملا أن تكون دورة الجفاف التي عانت منها بلادى كثيراً ستعرف نهايتها. فأنا أحب بلادى ومواطني حبا جماً، وأتشوق بشغف إلى كل ما من شأنه أن يساهم في سعادتهم المعنوية والمادية. وكانت النوق بفصلانها تنتشر حول هذا المهبط محاولة أن ترعى على الباكورات الأولى للبراعم التي بدأت تنمو فوق أشواك الشجيرات. وكان من بين فصلانها صغار تمشى الهوينا لحداثة عهدها بالولادة. وهناك الأبقار والأغنام تشرب من الماء الجاري فوق الرك، ولكنها لا تجد مرعى إذ لا تكاد الأعشاب تتجاوز سطح الأرض، فالمطر الأول لم تمض عليه إلا أيام معدودة.

لقد حدثني النقيب ولد الديه عن أخبار عائلتي مؤكدا أن مريم ما تزال في ضيافة الرئيس سينغور بدكار وأن الأطفال مع عمتهم أمامة. وحسب عبارته فإن «الوالدة في بوتلميت تعاملت مع الحدث بصورة جيدة، تعامل مسلمة مؤمنة».

وفى تلك الأثناء أنهت الطائرة تزودها بالوقود، وبدا قائدها بلباقة منهمكا في تهيئة مكان ملائم لى بمساعدة من النقيب ولد الديه. ثم أقلعت باتجاه النعمة. وكان المطر، على ما يبدو، قد نزل بغزارة على طول الخط بين العيون والنعمة حيث شاهدت من الطائرة غدرانا لا تحصى. وقد حلقنا فوق مطار النعمة في الوقت الذي كانت فيه طائرة مدنية صغيرة (كَالودك Gallouedec) تحاول الهبوط، ولكن بعض الجنود الذين أحاطوا بالمدرج راجلين وعلى متن سيارات لاندروفير أصدروا لها إشارات بعدم الهبوط قبل طائرتنا. وفي الأخير فهم الملاح المدني الإشارة وبدأ في الارتفاع ليحوم حول المدرج. وعند هبوط الطائرة التي تقلنى، استقبلت بأدب من قبل النقيبين محمد ولد لكحل قائد المنطقة العسكرية السابق ومحمد فال ولد المرابط قائدها الجديد. ثم ودعت النقيب ولد الديه وبدأت الرحلة في سيارة لاندروفير متخذا مكانا بين النقيبين الذين تولى أحدهما قيادة السيارة (ولد الأكحل). وتبعتنا سيارات لاندروفير أخرى تحمل جنودا، واتجهت القافلة صوب ولاتة. وهكذا عرفت في النهاية وجهتي.

لقد كان السفر بين النعمة وولاته شاقا بسبب حالة الطريق، إذ تلزم لقطع تلك المسافة أربع ساعات مع أنها لا تتجاوز مائة كلم، خاصة وأن مياه الأمطار غطت الطريق بالغدران وحولتها إلى أوحال حقيقية. وهكذا كانت السيارة تتعثر في الوحل إذا لم تغص فيه، واضطررنا في كثير من الأحيان إلى النزول منها لتخفيف الحمولة بل وإلى دفعها أحياناً أخرى للخروج من الوحل وإن كان مرافقي لا يرغبون في أن أشارك في ذلك المجهود.

وفي الأخير وصلنا القلعة العسكرية في ولاتة الواقعة خارج المدينة والمطلة عليها من بعد كيلومترين تقريبا. واستقبلنا من لدن الملازم عثمان ولد كازه رئيس المركز الذي آوانى في غرفته... واستلمت أمتعتى المتمثلة في علبتي كرتون كبيرتين تحتوى إحداهما على كتبى، والأخرى على لوازم النظافة وملابسى الموريتانية. وكانت حرارة فصل الأمطار ورطوبته على أشدها. وقد قدمت وجبة الغداء متأخرة، أما الشاي فكان بحق منعشا. ثم عاد النقيبان إلى النعمة.

وقد ظلت قلعة ولاته الصغيرة مهملة بصفة فعلية منذ اكتمال بنائها في الخمسينيات. وسأصف باقتضاب الجزء الذي خصص لى من هذه القلعة. إنه خراب لا أبواب به ولا نوافذ، وجدرانه متصدعة متهاوية ووسخة إلى أبعد الحدود. أما الأرضية فمشققة يكسوها الحصى والغبار. ولم يكن السقف أحسن حالا، فهو مغطي بصفائح عتيقة من الزنك تتراقص باستمرار تحت تأثير هبوب الرياح المطرد محدثة صوتا مزعجا ومثيرا إلى حدٍ يُصم السامع أحياناًً. وفي كل جهة من هذا المكان تعشعش أنواع من طيور الدوري أحصيت أربعة منها، ونوع واحد من الحمام. وهناك مجموعة من النحل تبنى مساكنها من التراب المبلل في كل وجهة حيث تبيض أثناء موسم الأمطار. يضاف إلى ما سبق عظايات صغيرة تدخل وتخرج من كل اتجاه، أما الذباب والنمل فحدث ولا حرج. وبكلمة واحدة فقد كان الديكور من أقل الديكورات حفاوة.

ولحسن الحظ كانت معنوياتى جيدة، وكنت على الدوام أنظر إلى الأشياء والأحداث بنسبية. وفي هذا السياق أذكر بأن هذه القلعة الصغيرة المهملة منذ الخمسينيات، كما أسلفت، كان من المفروض أن تستغل لإيواء الوحدة العسكرية - وجدت بها أولا مفرزة ثم سرية - منذ بداية حرب إعادة التوحيد الوطني ولاسيما منذ الهجوم على هذا المركز في شهر ديسمبر 1976 من قبل عصابة قادمة من الجزائر عبر شمال مالى. غير أن الجنود ومؤطريهم فضلوا السكنى تحت خيامهم العسكرية الصغيرة أو في أخصاص بسيطة شيدت حول القلعة بدل السكنى داخلها رغم كثرة الرياح التي تتعرض لها ولاته باستمرار.

وقد تحمل تلك الرياح أثناء الليل كميات كبيرة من الرمال تعرض من ينامون في العراء للدفن أحياء، وتجعلهم يكابدون المصاعب ليبعثوا من مرقدهم. إن هذا ليس قصة خيالية ولكنها تجربة عشتها شخصياًً. فقد أمضيت ليلة في ولاتة سنة 1974 أثناء زيارة تفقد لهذه المنطقة، واضطرنى ضغط جو الصيف الحار داخل المنازل إلى النوم في العراء. غير أنني عندما استيقظت وجدت نصفى مدفوناً!

لقد عشت ظروفاً يصعب تصورها ابتداء من 15 يوليو وحتى فاتح سبتمبر، ولكن من حسن الحظ أن لدي...

يتبع أن شاء الله

لمتابعة الجزء الأول، يرجى الضغط هنا

       

بحث