رفضتُ وساطةَ ديغول بشأن الاتحاد مع المغرب
----------------------------------------
في 23 مايو 1962 استقبلني الجنرال ديغول في مطار أورلي، وتحدث في خطاب الاستقبال عن الصداقة الخالصة والفعالة التي تربط الجمهورية الفرنسية بالجمهورية الإسلامية الموريتانية.
وحدثني الجنرال ديغول ونحن في السيارة التي تقلنا من مطار أورلي إلى شاتو دي شاه، بأن لديه رسالة من ملك المغرب يود أن يبلغني إياها أثناء أول اجتماع خاص بيننا وهو اجتماع مقرر في ذلك اليوم. وعندما استقبلني في مكتبه دخل في الحديث مباشرة فقال: «السيد الرئيس لقد استقبلتُ منذ قليل، كما تعلمون، ملكَ المغرب الذي كان قد علم بقدومكم إلى باريس في زيارة رسمية، فطلب مقابلتي ليحدثني خصوصاً عن موريتانيا. وبناءً على معرفته بنوعية العلاقات التي تجمع بين فرنسا وموريتانيا، وبين رئيسيهما كذلك، فقد كلّفني بأن أبلّغكم رغبتَه الصادقة في إيجاد حل مناسب يمكّنه من التخلص من هذا الإرث المزعج الذي تركه له الفقيد والده الملك محمد الخامس. وهو يطلب منكم مساعدتَه في الوصول إلى هذا الحل المنشود وهو حل يحمل بين ثناياه مصالح الشعبين، ويسمح بإقامة علاقات طبيعية بين بلده وبلدكم على المستويين الداخلي والخارجي، وذلك باعتبار بلدكم بلداً مستقلا كامل السيادة. لكن هذا الحل ينبغي أيضاً أن يتخذ شكلا يصون للملك ماءَ وجهه، وخاصة أمام حزب الاستقلال وزعيمه علال الفاسي، فهذا الحزب وزعيمه لا يرغبان في سماع أي حديث عن الاعتراف بموريتانيا من لدن المغرب. وبما أن الملك على علم بموقفكم، فإنه يكتفي باعترافكم بأي شكل من أشكال السيادة الروحية، وإذا لم يتسن ذلك فإنه يقبل صيغةً أخرى مثل الاتحاد بين بلدين مستقلين وكامليْ السيادة كما هو حاصل بين غانا وغينيا ومالي».
لقد كان ملك المغرب يعتقد، كما سبق أن ذكرتُ، أنني لا أستطيع رفضَ أي طلب للجنرال ديغول، فأنا في تقديرهم مِن «صنعه»، حسب الاصطلاحات التي يستخدمها المغرب في تلك الأيام.
وكان محدِّثي يتبنَّى، على ما يظهر من نبرته وأسلوبه، مقترحاتِ الملك التي يصفها بأنها «معقولة». وألح الجنرال ديغول على أهمية تسوية الخلاف بين موريتانيا والمغرب خاصة بالنسبة للجمهورية الإسلامية الموريتانية. وذكر بأن فرنسا ما زالت تتمسك بتعهدها بالدفاع عن الوحدة الترابية لموريتانيا. ثم أعلن أن «فرنسا ستكون محرجة من مقاومة المغرب فيما لو قام الأخير باجتياح الجمهورية الإسلامية الموريتانية. وهذا احتمال وارد - كما قال - خاصة أن المغرب سيستعيد، دون شك، تيندوف بعد نهاية حرب الجزائر التي أصبحت نهايتُها وشيكةً، وذلك لسببين: أولهما أن هذه المدينة مغربية تاريخياً وكذلك المنطقة التابعة لها، وقد انتزعتها فرنسا من المغرب لتُلحقها بالأراضي الجزائرية. وفرنسا ترى اليوم أنه من الطبيعي أن تعود إلى المملكة المغربية. أما السبب الثاني، في نظر الجنرال، فهو وجود اتفاق بين المغرب والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية يتضمن إعادةَ رسم الحدود بين البلدين بعد استقلال الجزائر. ومن المحتمل جداً أن تشمل إعادةُ رسم الحدود هذه ضمَّ تيندوف إلى الأراضي المغربية، وعندها لن يبقى حاجز بين الأراضي المغربية والأراضي الموريتانية. ومن هنا تبدو بجلاء حاجة موريتانيا إلى تسوية نزاعها مع المغرب تجنباً لمغبّة التعرض للأخطار المفاجئة».
وكان الجنرال ديغول، على ما يبدو، حريصاً على إنجاح وساطته، فقد تمكن ملك المغرب تماماً من إثارة كبريائه واللعب على الوتر الحساس لديه. ورددتُ عليه بما سبق أن رددت به على السفير الزهيري وعلى الرئيس كوامينكروما، بعدما قمت بتشذيب ردي عليهما. وقد أصيب بإحباط شديد لدى سماعه ردي بالرفض على اقتراحه. وبعد لحظة ارتباك وصمت ردَّ علي الجنرال ديغول قائلا: «لكن كيف تستطيعون الدفاعَ عن بلدكم فيما لو قرر المغرب اجتياحَه؟»، فأجبته أنه «من البديهي أن يتوقع تحقيق المغرب نصراً عسكرياً على موريتانيا، لكن هذه القناعة لا تمنعنا من مقاومته حتى آخر موريتاني. وسنقاوم طائراته ومدفعيته ببنادقنا البالية، بل وبعصيِّنا، وإذا انهزمنا في المراكز فسنلجأ إلى تنظيم المقاومة في صحرائنا التي لا يمكن للمغاربة الذين ألفوا حياةَ الحضر أن يعيشوا فيها. ففي صحرائنا سيشكل الحر والعطش خير حليفين لنا ضد الأعداء، ونحن على أية حال نفضل الموت بعزة وكرامة على العيش في المهانة، وقديماً قيل: ماء الحياة بذلة كجهنم /// وجهنم بالعز أطيب منزل
وأود، قبل أن أنهي حديثي، التذكير بأنني على يقين بأن فرنسا التي تربطنا بها علاقات متينة ولدينا معها اتفاقية للدفاع لن تتركنا وحيدين أمام المغرب إذا حاول سحقنا».
وجاء رد الجنرال ديغول على النحو التالي: «تأكدوا، سيدي الرئيس، أن فرنسا ستفي بالتزاماتها عندما تستوجب الأمورُ ذلك». وتوقّف الأمرُ بالنسبة لي عند هذا الحد، خاصة بعد أن طمأنتني العباراتُ الأخيرة مِن محدِّثي. وكان الجنرال ديغول قد أخبرني بأنه فضَّل الحديثَ إليَّ في هذا الشأن على انفراد بدل إثارته بحضور وفدَينا، لما يعلمه من تعقيده وحساسيته. لكن الجنرال ديغول فاجأني بطرح القضية من جديد أثناء جلسة العمل وبحضور وفدينا. وكان الوفد الفرنسي يتألف من جورج بومبيدو (الوزير الأول)، وموريس كوف دي مرفيل (وزير الشؤون الخارجية)، وبيير مسمير (وزير الدفاع) وجاك فوكار (الأمين العام لرئاسة الجمهورية الفرنسية المكلف بشؤون إفريقيا ومدغشقر). ويتألف الوفد الموريتاني من حمود ولد أحمدو (رئيس الجمعية الوطنية) والوزراء والنواب الأعضاء في الوفد الموريتاني والسفير الموريتاني في باريس ممادو توري. وأعترفُ أن الطريقة التي اتبعها الجنرال في عرضه للموضوع أمام أعضاء الوفدين أغضبتني جداً، لكني تمكنت من كظم غيظي فخاطبتُه قائلا: «سيدي الجنرال، إن مثلكم لا يحتاج إلى التذكير بالموقف الذي يجب اتخاذه إزاء الجار التوسعي!». وبعد لحظات صمت ثقيل، حوَّل الجنرالُ الحديثَ إلى موضوع آخر، وكأن شيئاً لم يحدث. وبعد أن أصبح جورج بومبيدو رئيساً للجمهورية الفرنسية، ذكر هذه الحادثة في مؤتمر صحفي عقده في نواكشوط أثناء زيارته الرسمية لموريتانيا في فبراير 1971.
بعد هذا سألتُ نفسي: لمَ تصرف الجنرال على ذلك النحو؟ أعتقد أنه، وهو يحاول الوصول إلى مسعاه في الوساطة التي قام بها، كان يرى أن طرح الموضوع بهذا الشكل، وأمام أعضاء الوفدين، سيجعلني أخجل مِن رفض ما كنتُ قد رفضتُه وأنا على انفراد معه في مكتبه. ومع ذلك يظل الأمر لغزاً محيراً.
المختار ولد داداه / «موريتانيا على درب التحديات»
من صفحة الاستاذ محمد المني


