ناصر الدين الذي أرعب فرنسا: القصة الممنوعة لحرب غيّرت تاريخ وجغرافيا المنطقة ..
حرب "شر ببه" كما رواها الحاكم الفرنسي لسان-لوي، لويس مورو دي شنبونو
حرب “شَر بَبَّه” ليست مجرد صراع عابر في تخوم السنغال وموريتانيا، بل ملحمة تتقاطع فيها مشاريع الإصلاح الديني والطموح السياسي وصراع النفوذ مع مصالح القوى الاستعمارية الناشئة، وتتصادم فيها رؤى متباينة لمستقبل المنطقة.
يروي لويس مورو دي شنبونو، الذي تولى منصب مفتش عام للشركة الفرنسية المهيمنة على سان-لوي والتي كانت اسمها "شركة السنغال" في الفترة ما بين 1673 و1677 قبل أن يصبح حاكما لسان-لوي بين 1684 و1689 ثم بين 1690 و1693، وقائع تلك السنوات بلغة تختلط فيها البراغماتية بقلق السلطة. في رسائله العاجلة التي نشرها الباحث Carson I. A. Ritchie في Bulletin de l’IFAN، يظهر شنبونو كمن يكتب تقارير طوارئ واستغاثة إلى حكومته، إذ يصف قرارات الإمام ناصر الدين بأنها شلّت شرايين التجارة الفرنسية عبر نهر السنغال، ويقول نصا: "إن المعاملات التي قررها الإمام ناصر الدين، المتعلقة بالزكاة والجبايا والرقيق، وفرضها على القبائل، أوقفت تماما تجارتنا عبر نهر السنغال، وقد تضرر تجار سان-لوي إلى درجة أن شركة السنغال أرسلت مناشدات إلى باريس وطلبت دعما عسكريا لإعادة فتح الممر التجاري الذي تعلق بالموانئ المطلة على النهر."
(Deux Textes sur le Sénégal (1673-1677), BIFAN)
هذا الاقتباس يكشف أن المسألة لم تكن دينية فقط بل اقتصادية واستراتيجية، وأن فرنسا رأت في مشروع الإمام تهديدا لمصالحها الحيوية. كان شنبونو قد عاش في السنغال مفتشا عاما للشركة بين 1674 و1677، وهي شركة سيتحول اسمها لاحقا إلى "شركة غينيا" سنة 1685، ثم عاد ليديرها ويصبح حاكم سان-لوي من موقعه كمدير عام حيث كان منصب حاكم سان-لوي هو نفسه منصب مدير الشركة، فوضع خططا طويلة الأمد لتوسيع النفوذ الفرنسي.
ينقل شنبونو أن نشاط الإمام بدأ عندما جمع أنصارا كثيرين من “المور” وغزا فوتا، ثم أرسل رسلا إلى ملوكها يدعوهم إلى التوبة واتباع الدين، فرفضوا، فعبر الإمام ناصر الدين النهر ومعه جيش مدرَّب ومسلح، داعيا الملوك إلى الإسلام والكف عن الإغارة والنهب والرق، فاستجاب له كثير من القرى. قاد حملات متتابعة على ممالك كايور وجولوف ووالو، وبعد معارك متكررة أخضعها وأدخلها تحت سلطته. هنا أخذ الصراع منعطفا خطيرا؛ فقد أوقف تجارة الرقيق تماما في المساحات الشاسعة التي شملها نطاق نفوذه، وهي ضربة موجعة لمصالح الشركة الفرنسية التي كانت تعتمد على هذه التجارة لتأمين أرباحها.
وبشكل متزامن استقبل الإمام ناصر الدين بعثاتٍ بريطانية وهولندية جاءت تعرض التعاون التجاري معه، وكانت تسعى إلى فتح شراكات لتصدير مادة الصمغ العربي عبر الموانئ الواقعة على ساحل المحيط الأطلسي.
عند هذه النقطة، طلب الحاكم الفرنسي دي مونشِن الدخول في مفاوضات، فأرسل الإمام ناصر الدين بعثة رسمية إلى سان-لوي برئاسة أخيه منير الدين، تحمل مشروعا طموحا لفتح تجارة مشروعة بديلة عن تجارة الرقيق. لكن ردّ المدير الفرنسي كان صادما، إذ أمر بذبح أعضاء البعثة. تلك الحادثة كانت الشرارة التي أشعلت النار في الهشيم، إذ عدّ الإمام ذلك إعلان حرب على مشروعه ودولته الوليدة.
اندلعت المواجهات وسالت الدماء على ضفتي النهر. أصيبت التجارة بالشلل، وخسر الطرفان الكثير. تقول المراسلات إن فرنسا أدركت عند هذه المرحلة أن استمرار الوضع يهدد وجودها الاستراتيجي في المنطقة، فاتخذت قرارا سريعا بالقضاء على حركة ناصر الدين قبل أن تتحول إلى قوة إقليمية راسخة لا يمكن القضاء عليها. كان الطريق الأقصر هو إذكاء التمردات الداخلية في الممالك جنوب النهر والمشيخات القبلية شماله. جرى تزويد المتمردين بالتموين والسلاح والعتاد الأكثر تطورا مما لدى قوات الإمام، فانقلب الصراع إلى حروب أهلية دموية تمزّق الكيان الذي بناه ناصر الدين من الداخل.
ومنذ تلك اللحظة بدأ العد التنازلي لسقوط الدولة الناصرية. لم يسقط الإمام في معركة واحدة فاصلة، بل سقط مشروعه على مراحل، تحت ضغط التمردات والانقسامات الداخلية وتدخل القوة الاستعمارية. كان كل تمرّد وكل انشقاق مسمارا جديدا في نعش دولته. ومع ذلك، فإن كان إرثه العسكري انكفأ ودولته قد انهارت وبشكل مأساوي، فقد تركت تجربته أثرا عميقا في ذاكرة المنطقة ووعيها السياسي والديني. كانت دولته -رغم قصر عمرها- محاولة جريئة لإنشاء دولة كبيرة ومنظمة في المنطقة.
أما شنبونو، فخرج من هذه العاصفة أكثر تصميما. بدأ يرسم خرائط نفوذ فرنسي جديد؛ صراعات تغذّيها باريس في الممالك الزنجية جنوب النهر، وأخرى في المشيخات العربية والبربرية شماله، حتى تبقى فرنسا ماسكة بعصا النفوذ من الوسط. ولهذا أطلق عليه بعض المؤرخين لقب "رائد الاستعمار الفرنسي في غرب إفريقيا"، لأنه كان أوّل من فهم أن السيطرة على ضفتي النهر تعني السيطرة على المنطقة بأكملها.
وهكذا، ما إن خمد ألسنة لهيب تلك الحرب حتى اندلعت نيران أشد اشتعالًا، نيران ستلتهم القرون التالية واحدًا تلو الآخر، وتمهّد لمسرح صراعات ممتدة لا تهدأ وحروب طويلة متشعبة لا ترحم؛ لم تعد المعركة بين قوتين واضحتين، بل تحوّلت إلى شبكة معقدة من الحروب، والكمائن، والانقلابات، وصدامات القبائل والمشيخات والإمارات الصغيرة التي وُلدت من رحم تلك المأساة. وكأن هذه الأرض، كلما شهقت بحرارة الشمس، أيقظت في أحشائها براكين نائمة تحت السطح، لتزفر من مناخرها لهيب الحرب، كأن أنفاسها قدرٌ محتوم، وحرارتها نبوءة بعواصف هوجاء تتخلق في قلب زمن غاضب، كأنها تمنع المعارك من غفوة راحة، وتقضي بأن تنهض من رقادها وتعيد رسم خرائط الدم والنار، فتُقرَعَ طبول الحرب من جديد.
انقسمت القوى التي وُلدت من رحم تلك الحرب إلى خصوم وأحلاف متقلّبة وعداوات متناحرة؛ كلٌّ يسعى للهيمنة والانتقام، حتى صارت الرمال نفسها شاهدة على غدر بعد غدر، وخيانة بعد أخرى، وتحالف ينقلب في ليلة وضحاها إلى عداوة، ومن هناك تبدأ فصول جديدة، أشد دموية، وأكثر دهاء وخديعة، وأشدّ تعقيدا، كأن المنطقة كُتبت عليها ملحمة لا تنتهي، ودوامة لا تتوقف، حيث كل نهاية ما هي إلا مقدمة لحروب أعنف من سابقاتها وأكثر شراسة.
انتظروا البقية ..
من صفحة الاعلامي/ عالي محمد ولد ابنو



