لقد كانت أهم الملاحظات الواردة في التقرير الأخير لمحكمة الحسابات (ص: 68)، حول تسيير وزارة العمل الاجتماعي والطفولة والأسرة، هو ما سماه التقرير بـ”تجاوز الترخيص Dépassement” والذي يعني بكل بساطة تجاوز المبلغ المحدد في الميزانية، وقد بلغ هذا التجاوز سنة 2023 مبلغ: 767.930.840 (الأرقام بالأوقية القديمة)، وتتعلق هذه التجاوزات بأجور العمال والمرتبات.
واليوم، ومن خلال إلقاء نظرة على نافذة “مراقبة تنفيذ الميزانية” بموقع الخزينة العامة، ندرك أن الأمر يتكرر في تنفيذ ميزانية هذه الوزارة لسنة 2025، حيث تجاوز هذا التنفيذ نسبة 100%، ويتعلق الأمر بالبندين التاليين:
ـ رواتب وأجور العمال، بنسبة: 102,88 %وهذا التجاوز “Dépassement” وصل: 1.574.480، من ميزانية مركز التكوين والترقية الاجتماعية للأطفال ذوي الإعاقة CFSEH التابع لوزارة العمل الاجتماعي والطفولة والأسرة؛
ـ العقدويون، بنسبة: 101,86 %وهذا التجاوز “Dépassement”وصل: 5.196.540 من ميزانية ديوان وزيرة العمل الاجتماعي والطفولة والأسرة؛
فلماذا تكرر هذا الخطأ في ميزانية 2025 ؟ وهل تكرر في ميزانية 2024 ؟ ذلك ما سنعرفه من خلال أو تقرير لمحكمة الحسابات.
ومن المفارقات الغريبة أنه، ورغم هذا “التجاوز” المسجل في الإنفاق على شريحة العمال، فإن عمال هذه الوزارة، والمؤسسات الوصية عليها، يعانون الكثير من الحيف والظلم، سواء تعلق الأمر بسقف الأجور والمرتبات ؟ أو بتأخرها، لعدة أشهر، أو بالترسيم ؟ أو بالتعيينات غير المهنية، بل وصل الأمر بهذه الوزارة إلى الضغط على بعض النقابيين طمعا في التأثير على مواقفهم من الدفاع عن حقوقهم وحقوق زملائهم.
وهنا نريد أن نتطرق بالتحليل لتنفيذ ميزانية مؤسستين تابعتين لهذه الوزارة، إحداهما: مركز التكوين والترقية الاجتماعية للأطفال ذوي الإعاقة CFSEH، ذات الاستقلال المالي والاداري، والثانية هي: مديرية الأشخاص ذوي الاعاقة DPSH.
بلغت الميزانية الأصلية لهذا المركز لهذه السنة: 347.783.940 ، صرف منها حتى اليوم مبلغ: 253.864.460، أي نسبة تنفيذ 72,99% والباقي: 93.919.480.
نظرا لأن هذا المركز يمارس نشاطه، شبه التعليمي، خلال السنة الدراسية فقط (7 أشهر بدلا من 9 أشهر، حيث غالبا ما يفتتح متأخرا ويغلق مسبقا)، فيعني أنه كان ينفق مبلغ: 36.266.351,43 شهريا.
وبالنظر إلى البنود المكونة لهذه الميزانية، وهي:
ـ ترقية وحماية أطفال التوحد (الفصل الفرعي 3): 103.994.260 (أوقية قديمة)
ـ رواتب وأجور (الفصل الفرعي 6): 54.599.370
ـ التكوين المتخصص وترقية الأطفال المعاقين (الفصل الفرعي 71): 149.190.310
ـ التكوين المتخصص وترقية الأطفال المعاقين (الفصل الفرعي 72): 40.000.000
وهنا نسجل بكثير من الاستغراب، تخصيص بند من هذه الميزانية (أكثر من 100 مليون) لفئة معينة من الأطفال المعاقين (أطفال التوحد)، دون غيرهم، وليس لذلك ما يبرره، بل إن لهذه الفئة، مركزا (خاصا) وهو مركز الشيخ زائد في تفرغ زينه، مجهزا بكل التجهيزات الضرورية، ومزود بطاقم أجنبي مقتدر، وبتمويل إماراتي وبرعاية من السيدة الأولى، ورئيسة “جمعية أطفال التوحد الموريتانية”، وهو المركز الوحيد الذي يستجيب لكل المعاير الدولية للتأهيل والتربية والتعليم المتخصص.
وبعيدا عن لغة الأرقام، ومن وحي الواقع المعاش، وبصفتي من آباء أطفال هذا المركز، فإن أداءه جد متواضع، بل إنه مجرد فقاعة إعلامية، فلكم أن تتصوروا أنه يرفض استقبال الأطفال المعاقين حركيا (المقعدين) ؟ كما ترفض المدارس العمومية أيضا استقبالهم ؟ فروعه متناثرة في ولايات انواكشوط الثلاث، وأربع ولايات داخلية، وجل مقراتها مؤجر وغير مصمم أصلا لإيواء هؤلاء الأطفال، مما جعل الإدارة مضطرة لتقسيم الأطفال إلى مجموعات تستفيد كل منها من خدمات المركز يومين أسبوعيا، بمعدل 5 ساعات، بل إن فرع أطفال متلازمة داون بتيارت، مهدد بانهيار سقفه، مما اضطر إدارته إلى إخلاء أحد الأقسام، ومازال أهالي الأطفال مقبلين على التسجيل في لائحة الانتظار، في كل فروع المركز، دون أن يعرفوا أنه عاجز عن استيعاب منتسبيه من التلاميذ، فكيف له أن يسجل تلاميذا جدد ؟
مشكل نقل الأطفال، كذلك، مطروح بإلحاح لكل فروع هذا المركز منذ انشاءه، فعدد الباصات محدود، وغالبيتها متهالكة، وكلها من الحجم الصغير (15 مقعد) مما اضطر معه المركز لتفويج التلاميذ.
ضف إلى ذلك أن هذا المركز لا يملك برنامجا أو مقررا تربويا خاصا به، كما أنه يعتمد على طاقم محلي من خريجي المدرسة الوطنية للعمل الاجتماعي.
مديرية الأشخاص ذوي الاعاقة DPSH: هل تواجه فائضا في ميزانيتها ؟
مبلغ الميزانية الأصلية للمديرية (الفصل 10): 470.262.780 (أوقية قديمة)، صُرف منها حتى نهاية أكتوبر 2025 مبلغ: 148.221.530، ليبقى فقط مبلغ: 322.041.250، وبهذا تصل النسبة المئوية لتنفيذ الميزانية إلى: 31,52% .
وتتوزع هذه الميزانية على البنود التالية:
التحويلات النقدية لصالح أسر الأطفال متعددي الاعاقة (فصل فرعي 2) = 252 مليون، تم حتى الآن صرف نصف المبلغ؛
ترقية الأشخاص المعاقين (فصل فرعي 5) = 30 مليون، لم يتم صرف أي شيء منها؛
اشتراك في التأمين الصحي لصالح المعاقين المعوزين (فصل فرعي 6) = 157 مليون، لم يتم صرف أي شيء منها؛
ترقية الأشخاص المعاقين (فصل فرعي 72) = 11 مليون، تم صرف نسبة 65% منها؛
أجور ومرتبات العمال: (فصل فرعي 73) = 19 مليون، تم صرف نسبة 77% منها؛
نلاحظ أنه في الوقت الذي صرف فيه مركز التكوين والترقية الاجتماعية للأطفال ذوي الإعاقة قرابة ثلاثة أرباع ميزانيته (73%)، وربما كان ذلك بهدف زيادة الميزانية المقبلة للمركز؟ نجد أن هذه المديرية المسؤولة عن ترقية وحماية شريحة الأشخاص المعاقين على المستوى الوطني والبالغ تعدادها أكثر من 500.000 معاق، لم تصرف ثلث ميزانيتها لهذه السنة التي لم يتبقى منها سوى شهرين فقط، فلماذا هذا التأخر الكبير في صرف هذه الميزانية التي لا تمثل شيئا بالنسبة للمهام الكثيرة والخدمات الاجتماعية المتعددة والمتوقعة من هذه المديرية المركزية، والتي من بينها:
ـ التحويلات النقدية لصالح “الأطفال متعددي الاعاقة”، وهو مبلغ 20.000 أوقية قديمة شهريا للطفل الواحد، علما أن تعداد المسجلين من هؤلاء الأطفال في ازدياد مضطرد، ويتولى المدير شخصيا الإشراف على هذه العملية، التي يؤخذ عليها وجوب حمل الطفل والصعود به إلى مكتب المدير، كما أنه يرفض تسجيل أكثر من طفل واحد للأسرة علما أن هناك أسرا تضم أكثر من طفل من هذا الصنف؛
ـ التأمين الصحي: تكلف هذه المديرية بملفات التأمين الصحي للمعاقين المعوزين والحاصلين على بطاقة الشخص المعاق، ورغم ذلك فإنها أمنت فقط 5000 معاقا من أصل 20.000 معاق حاصل على البطاقة، وملفات التأمين الصحي ترقد في رفوف هذه المديرية منذ عدة سنوات، دون أن أيحصل أصحابها على أي تأمين، والأغرب أننا نرى اليوم الميزانية المخصصة لهذا البند والبالغة أكثر من 157 مليونا، لم تصرف منها أوقية واحدة خلال هذه السنة.
ـ ترقية الأشخاص المعاقين: هذا البند يضم 30 مليون لم يتم صرفها، رغم أنه يمكن الاستفادة منها في اقتناء المعدات الحركية التي يعاني المعاقون من نقص كبير فيها، إذ لا يُتصور أن مديرية للمعاقين لا يمكنها توفير عكاز ولا كرسي متحرك، ولا أجهزة تقوية السمع، ولا قطع غيار لزارعي القوقعة، ولا حتى المراهم والكريمات التي لا غنى للمعاقين بالمهق عنها، لحماية أجسادهم من أشعة الشمس المسرطنة، ناهيك عن الأدوية الباهظة التكاليف التي لا غنى عنها للمصابين بالهوموفيليا، والحبل على الغارب…
ويبقى السؤوال المحير للجميع هو: كيف ستبرر هذه المديرية صرف 68% من ميزانيتها المتبقية خلال شهرين فقط ؟ بعد أن عجزت عن إنفاقها خلال 10 أشهر ؟ أم أنها في غنى عنها ؟
محمد عبد القدر محمد سالم


