المحظرة الموريتانية بين رهانات الأصالة وضغط التيارات الوافدة
شكّلت المحظرة الموريتانية عبر القرون إحدى آخر القلاع التي حافظت على تماسك هوية البلاد عبر الريادة في العلوم الشرعية واللغوية في عالمٍ عرف موجات الاضطراب والانهيار.
فقد استطاعت البداوة الموريتانية العالِمة أن تصون منظومة معرفية متكاملة، تستند إلى الفقه المالكي، والعقيدة الأشعرية، والتصوف السني، وتمنح المجتمع انسجامًا روحيًا وثقافيًا قلّ نظيره.
لكن هذا الإرث لم يعد يتحرك داخل فضائه التاريخي القديم؛ بل وجد نفسه خلال العقود الأخيرة في قلب صراع تيارات دينية وفكرية متشابكة، لكل منها شبكاته وموارده ورهاناته.
1. موجة اللائكية الغربية(الإلحاد) وحملات التنصير
تزايد الحضور الغربي في المجال الاجتماعي والتعليمي، بما في ذلك مشاريع تنصيرية منظمة ومدعومة ماليًا.
ورغم محدودية أثرها المباشر ، فإنها تستثمر هشاشة الفئات الأكثر فقرًا، وتعمل على تفكيك مرجعيات المجتمع عبر خطاب "الإنسانوية" المصحوب بإعادة تعريف للدين ودوره.
2. التيار السلفي القادم عبر المؤسسات الخليجية
أسهمت بعض المعاهد والبعثات التعليمية في إدخال أنماط تعبدية وتفسيرية مغايرة للمدرسة الموريتانية التقليدية.
ومع أن هذا التيار قدّم فرصًا تعليمية لشريحة واسعة، إلا أنه في الوقت نفسه أنتج توترًا معرفيًا مع النموذج المالكي الأشعري الذي اعتادت عليه المحظرة.
3. مدارس الإسلام السياسي (الإخوان) وما يتقاطع معها
قدّمت هذه التيارات خطابًا دينيًا ذا أهداف سياسية واضحة.
ورغم اختلافها مع السلفية في المنهج الدعوي، فإنها تتقاطع معها في نظرة حَرْفية للنص وتصورها للدولة والمجتمع.
فالإخوان والسلفية متحدان في العقيدة وحق الاجتهاد فيما لا اجتهاد فيه وحق تجاوز سلاسل من سند النص إذا اختلفت مع تأويلهم له.
وقد تحدى هذا النموذج دور المحظرة المتوارث في تربية الفقيه المربّي لا الحركي المنظِّم.
4. المدّ الإيراني الطائفي
ظهر بوجود محدود لكنه مدعوم بموازنات معتبرة، ويستثمر في خلق نخبة فكرية جديدة تتبنى خطابًا طائفيا بعيدًا عن التركيبة السنية المالكية.
ويمثل هذا التوجه قطيعة كاملة مع الموروث المحلي.
5. التيار الإبراهيمي ذو الارتباطات الصهيونية
يُعاد تسويق هذا الخطاب في المنطقة باعتباره "مشروع تعايش"، لكنه يُنظر إليه محليًا كأداة تطبيع ناعم يمرّ عبر بوابة الدين. ويصطدم هذا الطرح بوجدان المجتمع وبتاريخه العلمي المتجذر.
ويأتي منح قطعة أرض ضخمة لمركز سيكون هو منطلق نشاطه في انواكشوط ضمن خطط انطلاقه من غرب إفريقيا.
وفي ذلك استدعاء لصراعات محتدمة بين هذا التنظير الديني ومدارس أخرى تناصبه العداء ، مما سيجعل الساحة الموريتانية ميدان مواجهة بين هذه المشاريع المتصارعة على تغيير هوية موريتانيا الإسلامية الخالية من الشوائب.
6. تيارات القرآنيين
وهي مدارس تنكر حجية السنة، وتقدم قراءة فردانية للنص القرآني دون اهتمام بضوابط الأمة الصارمة تأصيليا.
ورغم ضيق دائرتها، فإنها تُربِك بنية المعرفة الشرعية التي تعتمد على السند وضبط المتون، وهي أركان راسخة في المحظرة.
7. تيارات التأويل البعيدة عن منهج السلف والأئمة
يمثل هذا الاتجاه بُعدًا فكريًا أكثر منه تنظيميًا، ويستند إلى قراءات حداثية للنصوص قد تتجاوز قواعد الأصول واللغة. ويبرز أثره أساسًا داخل النخب المتعلمة.
8. انحرافات بعض الطرق الصوفية
بينما ظل التصوف السني أحد أعمدة التزكية الروحية في موريتانيا، فقد ظهرت داخل بعض موريتانيا ممارسات تهدد جوهر المنهج التربوي القائم على العلم والعمل والإخلاص، وتسمح باستغلال العاطفة الدينية لأهداف خاصة.
وتكتسب طرق راقصة عابثة ذات بريق مادي الساحة ، باعتبارها مدارس تصوف وهي نقيض لجوهر التصوف.
الإشكال الأكبر ي يكمن في رعاية دول وأجهزة دولية لهذه الأنماط " التدينية" أو اللادينية" و في توظيف المال الخارجي لخلق شبكات نفوذ وأوراق لعب تستغل هشاشة الوضع الاقتصادي وإرهاق الناس بحثًا عن الفرص.
في سياق الصراع على المصالح في موريتانيا والإقليم المحيط بها.
وتتحمل بعض النخب الدينية والسياسية جزءًا من المسؤولية حين حولت الدين إلى مجال استثمار، بدل أن تجعله حائط صد يصون الهوية ويوجه الوعي.
وتبقى المحظرة الموريتانية قادرة على الصمود والتجدد، شرط أن تستعيد دورها الطبيعي في بناء الإنسان، وأن تحمي استقلالها العلمي بعيدًا عن صراعات الولاءات ومغريات التمويل، لتظل كما كانت وعاءً للمعرفة، لا ساحةً للتجاذب.
وذلك ماعلى الدولة أن تتولاه بوعي ومسؤولية وسيادة
فلا خير يرجى لموريتانيا من المراكز الإبراهيمية والسلفية والإخوانية والشيعية والإلحادية والتنصيرية ومدارس التأويل العشوائي العابثة بثوابت علوم التأصيل الشرعي .
وإسقاط ركن الهوية الإسلامي لموريتانيا سيعني سقوط بقية أركان الهوية ، تمهيدا لتفكيك السيادة والوطن معا.
بقلم : عبد الله ولد بونا/باحث ومفكر
12دجمبر2025


