أثار القرار الأخير الذي اتخذته السنغال بخفض أسعار الكهرباء والمياه والإسمنت والحديد نقاشاً واسعاً يتجاوز حدودها. فهذه المواد ليست ثانوية، بل تمثّل احتياجات أساسية للمواطن العادي، وتؤثر مباشرة على كلفة المعيشة، وإمكانية الحصول على السكن، وحيوية القطاع الاقتصادي. ومع ذلك، ورغم أن السنغال أكثر منّا سكاناً وأقلّ منا موارد، فقد نجحت في تخفيف العبء اليومي عن مواطنيها.
إن المفارقة لافتة. فالسنغال، التي تواجه تحديات اجتماعية واقتصادية أثقل بكثير، استطاعت رغم ذلك خفض أسعار المواد الأكثر استهلاكاً. ويترجم هذا الاختيار فلسفة واضحة للحكم تقوم على جعل راحة المواطن في صلب العمل العام، حتى في ظل ضغوط مالية صعبة. ومن خلال هذه التخفيضات، يثبت البلد أن الإرادة السياسية والحوكمة الرشيدة قادرتان على تحويل القيود إلى فرص.
وفي المقابل، تتجه الأمور عندنا بالاتجاه المعاكس. فارتفاع الأسعار متواصل، والضرائب تتفاقم، وكل قرار جديد يبدو وكأنه يزيد العبء على الأسر التي تعيش أصلاً ضغوطاً متصاعدة. الكهرباء أغلى، والمياه على المنوال نفسه، ومواد البناء ، التي تحدد قدرة المواطن على الحصول على السكن ، تبتعد أكثر فأكثر عن متناول الفئات المتوسطة. هذا الارتفاع المستمر يخلق ضغطاً اجتماعياً واقتصادياً ونفسياً لا يُقابله أي جهد حقيقي للتخفيف أو الإصلاح. ويثير هذا التناقض بين تطلعات الناس والقرارات المتخذة أسئلة جوهرية حول منطق الحوكمة لدينا وأولوياتها الفعلية.
وهكذا يظهر نموذجـان ونتيجتان مختلفتان تماماً. ففي السنغال، تتخذ السلطات خطوات تهدف إلى حماية القدرة الشرائية، واستقرار الوضع الاجتماعي، وتخفيف الأعباء. أما عندنا، فتتجه الخيارات المتبعة إلى تحميل المواطن تكلفة الاختلالات الاقتصادية بدلاً من معالجتها من خلال إصلاحات حقيقية وإدارة حكيمة.
المفارقة هنا ليست اقتصادية فحسب، بل أخلاقية وسياسية واستراتيجية أيضاً. فهي تكشف رؤيتين متباينتين لممارسة السلطة: رؤية تجعل الدولة في خدمة الشعب، وأخرى تطالب الشعب دائماً بالمزيد دون أن تقدّم له أفقاً واضحاً للتحسن.
ولا تهدف هذه المقارنة إلى تمجيد دولة أو التقليل من شأن أخرى، بل إلى إظهار حقيقة بديهية تؤكدها الوقائع: إن الحوكمة الرشيدة لا تعتمد على وفرة الموارد، بل على الرؤية، والإرادة، ونزاهة إدارة الشأن العام. وإذا كانت دولة أقلّ منا موارد قادرة على خفض أسعار المواد الأساسية، فإن عجزنا عن ذلك لا يمكن تفسيره بالظروف أو بالصدفة، بل بخيارات سياسية وإدارية واضحة.
لقد آن الأوان لاعتماد حوكمة تخفف عن المواطن، وتدعمه، وتحميه،حوكمة ترى فيه الهدف الأول للعمل العام، لا مجرد مصدر لزيادة الإيرادات.
الجنرال المتقاعد
لبات ول المعيوف


