لطالما كانت القضية الفلسطينية في صميم وجدان الشعوب العربية، لكنها، مع مرور الوقت، خرجت من أولويات كثير من الأنظمة والحكومات، التي فضّلت المصالح الضيقة والعلاقات المشبوهة على نصرة شعب يتعرض لأبشع أشكال العدوان والاحتلال. وفي خضم هذا التراجع والتخاذل، تقف غزة شامخة، لكنها مثقلة بالجراح، تدفع ضريبة تمسكها بثوابتها ورفضها الاستسلام لمخططات الاحتلال وأعوانه.
لقد شهدنا في العقود الأخيرة موجات من التطبيع العلني والخفي بين بعض الدول العربية والكيان الصهيوني، في مشهد يعكس بوضوح حجم الخيانة والتخلي عن المبادئ. لم تعد فلسطين في نظرهم قضية مركزية، بل عبئًا يريدون التخلص منه بأي ثمن. فيما انشغل الإعلام الرسمي العربي بتلميع الصورة الإسرائيلية وتهميش نضال الفلسطينيين، بل ووصم المقاومة بالإرهاب.
في المقابل، تبقى غزة – رغم الحصار والقصف والمجاعات والمجازر – عصية على الانكسار. هذه البقعة الصغيرة، المحاصرة من العدو والصديق، أبت أن ترفع الراية البيضاء، واختارت أن تكون آخر خطوط الدفاع عن كرامة الأمة. فهي اليوم تُقصف ليلًا ونهارًا، ويُقتل أطفالها ونساؤها، وتُستهدف مستشفياتها ومدارسها، لا لشيء سوى لأنها ترفض الخضوع.
إن الصمت العربي الرسمي أمام ما يجري في غزة لا يُفسَّر إلا بأنه تواطؤ، بل مشاركة ضمنية في الجريمة. فمن يُغلق المعابر في وجه الجرحى، ويمنع الإغاثة، ويصمت على المجازر، لا يقل إثمًا عمّن يضغط الزناد. ومن يطبّع مع الاحتلال ويستقبله بالأحضان، لا يمكنه أن يدّعي نصرة فلسطين.
غزة ليست مجرد مدينة، بل رمز للصمود والإباء، وجدار أخير أمام تصفية القضية الفلسطينية. ومع كل عدوان، تزداد غزة قوة في إيمانها بعدالة قضيتها، بينما يتساقط المزيد من الأقنعة عن وجوه من تخلوا عنها.
إن التاريخ لا ينسى، والشعوب لا تغفر. وسيأتي اليوم الذي يُحاسب فيه من تآمروا وباعوا وفرّطوا، وستبقى غزة عنوان العزة في زمن الذل، وقلعة الصمود في زمن الانهيارات.